
بعد أربعة عشرة عامًا من تخلص ليبيا من النظام الذي كان يُجّرم العمل المدني، وعمل الأحزاب، كان من الطبيعي أن تكون مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا اليوم في أفضل حالاتها، وأن تكون أعلى مستويات ما تواجه من تحديات، هي التحديات المادية، وبعض التحديات الأمنية بحكم هشاشة الوضع الأمني في البلاد، ولكن ما روته الناشطة حنين بوشوشة، رئيس منظمة “نوازي للدراسات والتنمية”، فاق كل التوقعات، حيث قالت إن هناك قرارات تصنف منظمات المجتمع المدني بأنها تعمل في مجال الجوسسة، كما تتهمها بالخيانة.

كما أشارت بوشوشة أن منظمات المجتمع المدني هي أحد أعمدة المجتمعات الحديثة، والدول الديمقراطية، وأكدت رئيس منظمة نوازي أن أول التحديات التي تواجه مؤسسات المجتمع المدني في ليبيا هو التحدي القانوني، بينما يمثل الانقسام السياسي ثاني التحديات.
اعتقالات وإخفاء قصري وتشهير وتخوين

أمال الناني رئيس جمعية “ليبية وابني غريب” التي تتخذ من مدينة غات (تبعد 1360 كيلومتر عن العاصمة طرابلس) مقرًا لها، قالت إنها تواجه تحديات قانونية جمة، خصوصًا في ظل وجود مفوضيتين للمجتمع المدني، واحدة في طرابلس، والأخرى في بنغازي، وكل مفوضية لا تعترف بالأخرى، وكان على منظمة ليبية وابني غريب الحصول على إشهار من كلتا المفوضيتين.
وأشارت الناني إلى التحدي القانوني الذي تعانيه منظمتها أسوة بجميع المنظمات الأخرى، والمتمثلة في القانون (19) لسنة 2001، والذي ساهم في التضييق على مؤسسات المجتمع المدني، إضافة إلى التحديات الأمنية والسياسية، المتمثلة في الاعتقالات، التي تطال النشطاء، والإخفاء القسري، والتشهير، والتخوين، والتشويه الإعلامي، إلى حد وصم منظمات المجتمع المدني بأنها تدعو للمثلية، والإرهاب.
بعد العام 2014 بدأ خريف المجتمع المدني

هالة سالم من مصراتي عضو منظمة “التضامن لمناصرة قضايا المرأة”، والتي انطلقت في نهاية العام 2011 بجهود مجموعة من السيدات، في مجال المناصرة، وتحصلت المنظمة على الإشهار الرسمي في العام 2013. وتصف المصراتي فترة ما قبل 2014 بأنها أفضل فترات عمل منظمات المجتمع المدني، إذ لم يبدأ حينها التضييق عليها، ووصفت أن الفترة ما بعد 2014 بفترة خريف المجتمع المدني، كما سردت هالة سالم عدة تحديات واجهت المجتمع المدني، ومن بينها تكليف عضو المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، أحمد حمزة بالإشراف على المجتمع المدني، ومن هنا كما تقول، بدأ شيطنة المجتمع المدني.
دولة دون منظمات مجتمع مدني هو نوع من العبث
الناشط والمحامي وائل بن إسماعيل، دافع على عدد من النشطاء بسبب تعرضهم للقبض التعسفي بسبب عملهم المدني، قال: إن من أول التحديات التي تواجه منظمات المجتمع المدني هو عدم وجود تشريع، والقانون رقم 19 لسنة 2001 لا يتماشى مع الحقوق التي تم الإعلان عنها في الإعلان الدستوري، حيث نص صراحة على حق الليبيين في تكوين الجمعيات والانضمام إليها. وأضاف بن إسماعيل أن وجود بعض القرارات سواء كانت من المجلس الرئاسي، أو الحكومات هي قرارات لا تختص بتنظيم الانتساب إلى المجتمع المدني، أو وضع الآلية القانونية الصحيحة لتأسيس المجتمع المدني، وذلك لسبب رئيس وهو أن الإعلان الدستوري قد نص صراحة أن ينظم هذا الحق بموجب تشريع قانوني، وللأسف في ليبيا إلى هذا الوقت لم يصدر أي تشريع ينظم عمل منظمات المجتمع المدني مما جعل التمتع بحق الانضمام إلى الجمعيات أو تكوينها هو حق صوري فقط، وليس حقًا فعليًا.
المحامي بن إسماعيل كان أحد الذين تقدموا بطعن دستوري في القانون رقم (19) على اعتبار أن هذا القانون لا يعترف بحق تكوين الجمعيات، وقد صدر في فترة لا تعترف بالكثير من الحقوق الأساسية، هو معني بالجمعيات الخيرية، ويستثني الجمعيات الحقوقية. وأضاف بن إسماعيل أن المنتمي لمنظمات المجتمع المدني يواجه حاليًا تهمًا مثل ممارسة أنشطة دون ترخيص. وأردف أن القرار الصادر عن المجلس الرئاسي تم إيقافه بموجب حكم قضائي، ووجود دولة مدنية دون منظمات مجتمع مدني هو نوع من العبث، وعدم الإقرار بالدولة المدنية، لأنه لا توجد دولة مدنية دون منظمات مجتمع مدني، ونحن في ليبيا بحاجة إلى العمل المدني.
إخفاء قسري واعتقالات واغتيالات
محمد الناجم رئيس المركز الليبي لحرية الصحافة، قال أن التحدي الرئيس والأول في سياق المجتمع الليبي بعد حالة انهيار النظام، هو توغل الجماعات المسلحة، ومحاولة فرض سيطرتها على منظمات المجتمع المدني، محاولة إجراء دور الحارس والرقيب على أعمال المجتمع المدني، وهذا تداخل في الاختصاصات والمهام يعني أصبح يعرقل بشكل كبير، وأصبح قطاع المجتمع المدني بيئة طاردة للناشطين وللعاملين، المتطوعين، وللأعضاء المنتسبين، فأصبحت البيئة في العموم بيئة طاردة، لأن هناك انهيار لمنظومة العدالة، انهيار لمؤسسات الدولة، فبالتالي هناك أطراف سياسية تريد أن تصل إلى الحكم ولكن على جثث وعلى دماء الأبرياء، على دماء العاملين في المجتمع المدني، محاولات الإخفاء القسري، الاعتقالات ومحاولات التعذيب، اغتيال الناشطين وغيرها.
الناجم أشاد ببعض المبادرات التي تحظى بدعم بعثة الأمم المتحدة، لدعم المجتمع المدني، غير أنه أشار أنها لا تعتبر مقياسًا، ويمكن أن نبني عليها مستقبل أفضل وتنظيم يكون.
وقال إن السلطة التشريعية الحالية منقسمة، وتحجم عن إصدار قانون تنظيم المجتمع المدني، مما يعطل الأطر القانونية لحرية تكوين الجمعيات وشفافية عملها ومشاركة المواطنين. وعزى ذلك إلى غياب التوافق السياسي داخل مجلس النواب، وانشغال أعضائه بقضايا أخرى.
وختم بأن الحل فيما تعانيه منظمان المجتمع المدني يتمثل في إجراء انتخابات برلمانية جديدة تمثل إرادة الليبيين، لتمرير التشريعات الداعمة للمجتمع المدني ورسم معالم بناء مؤسسات الدولة.
القانون رقم 19 يقيّد حرية العمل المدني
قال حسام الطير، رئيس شبكة أصوات للإعلام، التي تأسست عام 2017 وجرى إشهارها رسمياً في 2019، أن الشبكة تواجه تحديات كبيرة في ليبيا على ثلاثة محاور رئيسة، وهي قانونية واقتصادية وأمنية.
وأوضح الطير أن الإطار القانوني المنظم لعمل منظمات المجتمع المدني، والمتمثل في القانون رقم 19 لسنة 2001، يقيّد حرية العمل المدني ويتعارض مع الإعلان الدستوري والمواثيق الدولية، ما أدى إلى تعثر تسجيل وتجديد إشهار العديد من المنظمات، واضطر بعضها إلى التوقف أو الهجرة.
كما أشار إلى أن القيود القانونية تعرقل أيضاً عملية التمويل، مما يصعّب استمرار الأنشطة والمشاريع، خاصة في ظل تعقيدات التعامل مع الجهات المانحة الدولية، ولفت إلى أن القانون رقم 19 يشكل عائقًا دائمًا يعود في كل مرحلة، مطالبًا بإلغائه واعتماد قانون جديد تم إعداده بمشاركة شبكة أصوات وخبراء دوليين ومحليين، وهو الآن بيد مجلس النواب دون أن يُبتّ فيه.
وفي معرض حديثه حول التحديات الأمنية، أضاف الطير أن غياب الوعي بدور المجتمع المدني لدى الأجهزة الأمنية أدى إلى تخوين الناشطين وملاحقة المنظمات، مشيراً إلى أن الحكومات المتعاقبة لم تولِ المجتمع المدني الاهتمام المطلوب، رغم كونه شريكًا أساسيًا في الإصلاح والتحول الديمقراطي.
وأكد الطير أن شبكة أصوات تواصل جهودها في التدريب والمناصرة القانونية والدستورية، بما في ذلك تقديم طعون قضائية لإيقاف العمل بالقانون الحالي، والدفع نحو بيئة قانونية عادلة تُمكّن منظمات المجتمع المدني من أداء دورها.
دور المفوضية هو قيد المنظمات وليس منح التراخيص
قال رمضان معيتيق، مدير فرع مفوضية المجتمع المدني بمصراتة سابقًا، إن منظمات المجتمع المدني في ليبيا عانت خلال السنوات الماضية من تضييقات قانونية وإدارية وأمنية، رغم الدور الإيجابي الكبير الذي قامت به منذ عام 2011 في مجالات متعددة، أبرزها الشراكة مع المفوضية العليا للانتخابات، والمصالحة الوطنية، والتنمية المجتمعية، والتعليم، والصحة، والمراقبة على العملية السياسية.
وأشار معيتيق إلى أن غياب قانون موحّد ينظم عمل هذه المنظمات تسبب في فراغ تشريعي كبير، حيث ما يزال القانون رقم 19 لسنة 2001 ساريًا رغم تعارضه مع الإعلان الدستوري ومبادئ ثورة فبراير. كما اعتبر أن الفتوى الصادرة عن إدارة القانون، والتي تنفي شرعية المنظمات المؤسسة بعد 2011، تُناقض نصوص قانونية أخرى، وتُضعف من مشروعية العمل المدني.
وفي معرض حديثه عن دور مفوضية المجتمع المدني، أوضح معيتيق أن المفوضية أنشئت لتقديم الدعم الفني والإداري للمنظمات، وليس للحد من حريتها، وأن دورها يقتصر على قيد المنظمات وليس منح التراخيص، إلا أن بعض الفروع والإدارات تجاوزت صلاحياتها، مما أدى إلى تضييق غير مبرر على المنظمات، خاصة مع استمرار الانقسام المؤسسي بين شرق البلاد وغربها منذ عام 2016.
وأكد معيتيق على ضرورة إصدار قانون موحد وحديث ينظم العمل المدني، ويوحد الجسم المؤسسي المشرف عليه، محذرًا من استمرار تغوّل بعض الجهات الأمنية وتعاملها مع المنظمات وكأنها كيانات مشبوهة. كما دعا المجلس الرئاسي والسلطات التشريعية إلى رفع القيود وتسهيل عمل منظمات المجتمع المدني، التي أثبتت خلال أكثر من عقد قدرتها على خدمة المجتمع الليبي والمساهمة في الاستقرار والتحول الديمقراطي.
عندما غابت الدولة
في العالم أجمع أصبحت منظمات المجتمع المدني حلقة الوصل بين السلطات والمواطنين، وشكلت إحدى أدوات الرقابة والمساءلة، خصوصًا في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، وفي ليبيا كان لمنظمات المجتمع المدني دورًا مهمًا في شتى المجالات، خصوصًا في فترة غياب الدولة، وفي فترات عجزت فيها الحكومة عن تغطية العديد من الملفات، منها ما يتعلق بالإغاثة، أو التنمية المجتمعية، لاسيما في مناطق الجنوب.
اضغط على الرابط للاطلاع على عينة من أهم إنجازات 11 منطمة مجتمع مدني في ليبيا
المجتمع المدني في ليبيا .. تسلسل تاريخي
بدأت معاناة المجتمع المدني الحقيقية في ليبيا في العام 1970، أي بعد أقل من عام من الانقلاب العسكري على المملكة الليبية، وتحديدًا في 9 فبراير 1970، حيث أصدر ما عرف بمجلس قيادة الثورة آنذاك القانون رقم (16) لسنة 1970 بشأن بعض الأحكام الخاصة بالجمعيات، وهو قانون مبهم لم يقدم أي تعريف للجمعيات، ولا حدد مسارات عملها، بل أجاز لوزير العمل والشؤون الاجتماعية، أن يعين مديرًا أو مجلس إدارة مؤقت لأية جمعية من الجمعيات الخاصة، كما نصت المادة الثالثة على مادة معاقبة كل من يخالف حكم القانون أو القرارات الصادرة تنفيذًا له، وفي 10 سبتمبر 1970 أصدر ذات المجلس القانون رقم (111) والذي ضم (65) مادة، ولم يشر القانون إذا كان المعني بالجمعيات هي منظمات المجتمع المدني، أو الجمعيات الوظيفية على شاكلة جمعية سائقي سيارات النقل وغيرها، غير أن المادة (55) قد نصت أن الجمعيات التي يقصدها القانون، هي التي تحقق مصلحة عامة، ويجوز بناء على طلبها أن تعتبر جمعية ذات صفة عامة، وذلك بقرار من مجلس قيادة الثورة يصدر باعتماد نظامها، كنا نصت المادة (62) أنه لا تسرى أحكام هذا القانون على أندية الشباب والرياضة، والجمعيات التعاونية، والجمعيات الصادر بتنظيمها قانون، كما لا تسرى أحكامه على الجمعيات الطلابية، ويصدر بتنظيم هذه الجمعيات قرار من وزير التربية والإرشاد القومي.
قانون الجمعيات رقم 111 لسنة 1970 في ليبيا، يتعارض في كثير من مواده مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان وحرية تكوين الجمعيات، حيث يفرض القانون قيودًا صارمة على تأسيس الجمعيات، وعملها واستقلاليتها، مما يجعله أداة للسيطرة على المجتمع المدني بدلاً من تمكينه، وتتلخص أبرز هذه المآخذ في النقاط التالية:
- قيود على التأسيس والإشهار التي منحت سلطة تقديرية واسعة للدولة، مع شرط العدد الكبير للمؤسسين، إذ أن المادة (3) خمسين عضوًا مؤسسًا على الأقل، وهو عدد كبير جدًا وغير عملي، خاصة بالنسبة للمبادرات المحلية، أو الجمعيات ذات الأهداف المتخصصة، مما يعوق تأسيس الجمعيات الصغيرة.
كما تمنع المادة (3) الأشخاص المحرومين من حقوقهم السياسية أو المدنية من تأسيس الجمعيات أو الانضمام إليها، وهو ما يعد عقوبة إضافية تفرض قيودًا غير مبررة على حرية تكوين الجمعيات.
وتمنح المادة (10) وزارة العمل والشؤون الاجتماعية سلطة تقديرية واسعة لرفض تسجيل الجمعية لأسباب غير موضوعية مثل “عدم وجود حاجة لخدمات الجمعية” أو أن تأسيسها “لا يتفق مع دواعي الأمن”. هذه المصطلحات الفضفاضة تفتح الباب للرفض التعسفي لأسباب سياسية.
أيضًا تمنح المواد (46، 47، 49) وزير العمل والشؤون الاجتماعية سلطات مطلقة وغير مقيدة في إدماج الجمعيات أو حلها أو إغلاق مقراتها بقرارات إدارية ولأسباب عامة مثل “المصلحة العامة” أو “دواعي الأمن العام”، دون اللجوء إلى القضاء، وهو ما يعد انتهاكًا صارخًا لاستقلالية الجمعيات.
وتجيز المادة (44) للوزير تعيين مجلس إدارة مؤقت للجمعية، مما يعني سيطرة كاملة للسلطة التنفيذية على إدارة الجمعية وشؤونها الداخلية، كما تفرض المواد (7، 17، 20، 21) قيودًا شديدة على تمويل الجمعيات، حيث تشترط موافقة الوزير على تلقي أي أموال من الخارج أو جمع التبرعات، وتحدد سقفًا للأرصدة النقدية، هذه القيود تخنق قدرة الجمعيات على العمل باستقلالية والاستدامة المالية.
ورغم أن القانون رقم 19 لسنة 2001 جاء ليحل محل القانون رقم (111) لسنة 1970، إلا أنه حافظ على النهج التقييدي، بل وأعاد إنتاج العديد من القيود على حرية تأسيس وعمل منظمات المجتمع المدني، مما يجعله متعارضًا بشكل واضح مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، حيث استمر هذا القانون في تحقيق توجه الدولة في اعتبار الجمعيات الأهلية كيانات تابعة للسلطة، ويجب أن تخضع لرقابتها المباشرة، بدلاً من كونها فضاءات مستقلة للمجتمع المدني، وهو لا ينظم عمل الجمعيات بقدر ما يسيطر عليه، وذلك من خلال آليات متعددة تشمل، نظام الترخيص المسبق بدلاً من نظام الإخطار، إذ يطلب القانون الحصول على موافقة مسبقة (إشهار) من جهات إدارية، مما يعطي الدولة سلطة تقديرية في السماح بوجود الجمعية من عدمه، وهذه الجهات لها حق المنع، والحل، كما تملك سلطة الاتهام، ناهيك عن القيود المالية الخانقة التي يفرضها القانون، والمتعلقة بالتمويل، خاصة التمويل الخارجي، مما يقوض استقلاليتها واستدامتها، كون أن الدولة لن تتبنى أي استراتيجية وطنية لدعم منظمات المجتمع المدني.
ويجرّم القانون المخالفات الإدارية ويعاقب عليها بالحبس، مما يخلق بيئة من الخوف ويحد من قدرة الناشطين على العمل بحرية، ورغم أن ليبيا قد صادقت على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي تكفل مادته (22) الحق في حرية تكوين الجمعيات. كما أن الإعلان الدستوري الليبي المؤقت (2011) يكفل في المادة (15) الحق في حرية تكوين الجمعيات السلمية، إلا أن القانون رقم (19) لم يلغ بعد، رغم تعارض مواده مع هذه المبادئ في عدة مواضع، منها القيود على التأسيس والإشهار، إذ تنص المادة (6): يكون شهر نظام الجمعية على مستوى الجماهيرية العظمى (ليبيا) بقرار من أمانة اللجنة الشعبية العامة (مجلس الوزراء)، ويكون شهر نظام الجمعية على المستوى الشعبية (البلدية) بقرار من اللجنة الشعبية للشعبية (عميد البلدية)، ويقيد الشهر في الحالتين في السجل المعد لهذا الغرض. وتكرس هذه المادة نظام الترخيص وليس الإخطار، فالحق في تكوين الجمعيات يجب أن يُمارس بمجرد إعلام السلطات (الإخطار)، وليس انتظارًا لموافقتها (الترخيص). منح جهة إدارية سلطة “القرار” يعني أنها تستطيع الرفض لأسباب تقديرية، وهو ما يخالف المعايير الدولية التي لا تجيز الرفض إلا لأسباب محددة قانونًا وتخضع للرقابة القضائية.
يتضح في المواد (32) و(34) و(36) الانتهاك الواضح لاستقلالية المنظمات، إذ تنص على حل الجمعية أو إدماجها أو تعيين إدارة مؤقتة لها من السلطة التنفيذية، وهذه العقوبات يجب أن تكون بحكم قضائي نتيجة مخالفات جسيمة، وليس بقرار إداري، كما استخدام القانون مصطلح فضفاض وهو “المصلحة العامة” كسبب للحل يفتح الباب على مصراعيه للحل التعسفي للمنظمات التي لا تروق للسلطة.
وفيما يتعلق بالقيود على التمويل والتعاون الدولي نصت المادة (14) من القانون ” لا يجوز لأية جمعية أن تنتسب أو تشترك أو تنضم إلى جمعية أو هيئة أو ناد مقره خارج الجماهيرية العظمى أو تقبل تبرعات أو هبات من جهات أجنبية إلا بعد الحصول على موافقة أمانة اللجنة الشعبية العامة.
وتحدد اللائحة التنفيذية لهذا القانون ضوابط مشاركة الجمعيات في الأنشطة الإقليمية والدولية”.
وتمثل هذه المادة أهم التحديات أمام المنظمات، إذ أن الحق في التماس وتلقي الموارد هو جزء لا يتجزأ من الحق في حرية تكوين الجمعيات، واشتراط الحصول على موافقة مسبقة على كل تبرع أو هبة أو تعاون دولي يمنح السلطة أداة للتحكم في الجمعيات ومعاقبة المستقلة منها عبر حرمانها من الموارد اللازمة لعملها.
كما يفرض القانون عقوبات جنائية غير متناسبة، حيث تنص المادة (41) فرض عقوبات سالبة للحرية (الحبس) على مخالفات إدارية، مثل مباشرة النشاط قبل الحصول على الترخيص الرسمي هو أمر غير متناسب ويهدف إلى ترهيب أعضاء المجتمع المدني، المعايير الدولية تؤكد أن العقوبات يجب أن تكون متناسبة مع المخالفة، وفي الغالب يجب أن تكون إدارية (مثل الغرامات)، ولا يجوز اللجوء إلى القانون الجنائي إلا في أضيق الحدود.
خلاصة القول، القانون رقم 19 لسنة 2001، مثله مثل سلفه، هو أداة قانونية لتقييد المجتمع المدني والسيطرة عليه، ويتعارض بشكل جوهري مع التزامات ليبيا الدولية وكفالاتها الدستورية المتعلقة بحرية تكوين الجمعيات.
للاطلاع على كل ما صدر من قوانين وقرارات ومناشير تخص المجتمع المدني في ليبيا على موقع المجمع القانوني الليبي
ملخص تقرير المقررين الخاصين حول قانون الجمعيات الأهلية في ليبيا (قانون 19 لسنة 2001)
في السادس من أكتوبر 2023، وجّه أربعة مقررين خاصين تابعين للأمم المتحدة رسالة إلى المجلس الرئاسي الليبي، وحكومة الوحدة الوطنية، مع نسخ وجهت إلى مجلس النواب، والقيادة العامة للجيش الليبية التابع إلى مجلس النواب، أعربوا فيها عن قلقهم العميق إزاء العودة إلى تطبيق القانون رقم 19 لسنة 2001 المتعلق بتنظيم الجمعيات، إلى جانب قرار المجلس الرئاسي رقم (286) لسنة 2019 ولائحة مصرف ليبيا المركزي رقم 3 لسنة 2016، والتي اعتُبرت جميعها مخالفة للالتزامات الدولية لليبيا بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، خاصة المادة 22 منه التي تحمي حرية تكوين الجمعيات.
وأشارت الرسالة المكونة من 13 صفحة (تحصلت ليفيج على صورة منها) إلى أن القانون رقم (19) لسنة 2001، يتضمن قيودًا صارمة على تشكيل وعمل منظمات المجتمع المدني، منها ضرورة الحصول على ترخيص مسبق بعدد كبير من المؤسسين (50 شخصًا)، ومنع التمويل الأجنبي دون إذن حكومي، وإمكانية حل الجمعيات بقرارات إدارية غير قابلة للطعن.
كما أشارت المخاطبة إلى قرار المجلس الرئاسي رقم 286 لسنة 2019 الذي يمنح مفوضية المجتمع المدني صلاحيات واسعة، وغير خاضعة للرقابة القضائية، بما في ذلك منع التسجيل، أو سحب الترخيص، ويضع قيودًا على أنشطة الجمعيات المحلية والدولية، خاصة فيما يتعلق بالتمويل، والعلاقات الخارجية، ويفرض شروطًا مرهقة على الجمعيات الدولية.
كما تناولت المخاطبة أيضًت اللائحة رقم 3 لسنة 2016 الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي، وأشارت أنها تضع قيودًا على فتح الحسابات البنكية وتحويل الأموال، ما يعرقل بشكل كبير عمل الجمعيات الخيرية والحقوقية.
وقد أوضح المقررون أن هذه القوانين والقرارات:
- تتعارض مع الإعلان الدستوري الليبي المؤقت لعام 2011 الذي يضمن حرية تأسيس الجمعيات.
- تنتهك الالتزامات الدولية لليبيا في مجال حقوق الإنسان، ومنها الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها.
- تهدد الفضاء المدني وتعيق مشاركة المجتمع المدني في دعم الاستقرار والانتخابات والمساعدات الإنسانية.
وأوصى المقررون في ذات الخطاب بـ:
- إلغاء القانون 19/2001 والمرسوم 286/2019 واللائحة 3/2016.
- إعداد قانون جديد للجمعيات بالتشاور مع منظمات المجتمع المدني يضمن بيئة قانونية آمنة ومحفزة.
- الامتناع عن فرض إجراءات عقابية على الجمعيات بسبب التمويل أو عدم التسجيل، وضمان الحق في التنظيم دون تدخل تعسفي.
وشددوا على أن حرية تكوين الجمعيات ركن أساسي في بناء السلام والديمقراطية، ويجب احترامها وتيسيرها وليس قمعها بحجة الأمن أو مكافحة الإرهاب.
هناك خلف الكواليس من لا يريدون منظمة قوية أو حزب قوي

عضو مجلس النواب الليبي، علي التكبالي، قال أن قانون المنظمات المدنية لم يتغير منذ العام 2001، ثم الغته محكمة جنوب بنغازي، وحينما كانت الدولة تريد أن تصدر قانونًا، في العام 2011 بشأن الأحزاب، بدأت بهذا القانون، ثم توقف العمل عليه، والمشكلة أن هناك الكثير من اللغط، وهناك الكثير من عدم الاتفاق، وهناك أناس خلف الكواليس لا يردون منظمة قوية، أو حزب قوي أن يكون موجودًا، فالمسألة مسألة حرية، ومسألة عدم ثقة، ومسألة دول ضاغطة أيضًا.
رأي المجلس الرئاسي الليبي
قبل الانتهاء من جمع خيوط التقرير كان علينا أن نتجه إلى المجلس الرئاسي، على اعتباره أعلى سلطة في البلاد، وهناك التقينا النائب بالمجلس، عبد الله اللافي، الذي أكد على أهمية دور منظمات المجتمع المدني، وما تقوم به في شتى مناحي الحياة، خصوصًا في مجال المصالحة الوطنية، وقال اللافي: أن عددًا من منظمات المجتمع المدني كان لها تعاون في مجال المصالحة، في مختلف المناطق.

وشدد في الوقت ذاته أن أي خطوة لتطوير منظمات المجتمع المدني، يجب أن تبدأ بسن قانون، لأن القانون رقم 19 لسنة 2001 لا يلبي المرحلة الحالية، والتطورات التي شهدتها البلاد في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان.
وختم اللافي قوله: أننا نؤمن بقوة وقيمة المجتمع المدني، وعليه لا يجب أن تكون الحلول مجرد حلول تلفيقية، خصوصًا في ظل الانقسام السياسي، ونحن مع أن تكون هناك مفوضية مستقلة، تمارس دورها كمانح للإشهار وليس كمانح للترخيص، وألا تكون هناك سلطة على المجتمع المدني سوى سلطة القانون.
مدير الإعلام والاتصال، والمتحدث الرسمي لبعثة الأمم المتحدة في ليبيا، محمد الأسعدي، أكد أن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، تثمن الدور المحوري الذي يضطلع به المجتمع المدني في تعزيز المشاركة الشعبية وترسيخ القيم الديمقراطية، خاصة في سياق التحضير لأي استحقاقات انتخابية مقبلة. وقال أن البعثة تعتبر أن منظمات المجتمع المدني شريك أساسي في دعم الشفافية، وبناء الثقة، وتمكين المواطنين من ممارسة حقوقهم السياسية والمدنية.

وأضاف أن البعثة تواصل في إطار ولايتها، تقديم الدعم الفني وبناء القدرات لمجموعة واسعة من المنظمات، وتشجيع الحوار البنّاء بينها وبين مؤسسات الدولة والأطراف الفاعلة الأخرى، بما يسهم في تعزيز بيئة عمل آمنة وفاعلة لهذه المنظمات ودعم العملية السياسية التي ستقود البلاد نحو الانتخابات.
وعن ملاحظات البعثة حول المجتمع المدني في ليبيا، قال الأسعدي أن المجتمع المدني في ليبيا، أظهر التزامًا وإصرارًا على مواصلة عمله رغم التحديات، مؤكدًا في الوقت نفسه أن وجود إطار تشريعي عصري ومتوافق مع المعايير الدولية، بما في ذلك مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يعدّ أمرًا أساسيًا لتمكين هذه المنظمات من أداء أدوارها بحرية واستقلالية كاملة.
وختم حديث بالقول إن البعثة تدعو جميع الأطراف المعنية إلى مواصلة العمل على توفير بيئة قانونية وإجرائية داعمة، تعكس التزامات ليبيا الدولية، وتفتح المجال أمام مساهمة مجتمعية أوسع في بناء مستقبل البلاد.
بعد أكثر من أربعة أشهر من البحث، واستقصاء الآراء، وتسجيل الانطباعات، حطت بنا رحال التقرير لدى قسم حقوق الإنسان وسيادة القانون والعدالة الانتقالية في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، حيث التقينا السيدة سوكي ناغرا، رئيس القسم.
ناغرا أكدت أن منظمات المجتمع المدني في ليبيا تواصل مواجهة قيود متزايدة. زقالت أنه منذ قرار حكومة الوحدة الوطنية في مايو 2023 بتشكيل لجنة لتنظيم عمل منظمات المجتمع المدني بموجب القانون رقم (19)، وثقت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا تزايد القيود على حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع السلمي، إلى جانب أعمال الترهيب والاعتقال والاحتجاز التعسفي والهجمات التي تستهدف النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان. وقد أسهمت هذه الإجراءات في خلق مناخ من الخوف، وتثبيط المشاركة المدنية، وتقويض قدرة منظمات المجتمع المدني على المساهمة الفعّالة في عملية الانتقال الديمقراطي في ليبيا، بما في ذلك أي استحقاق انتخابي قادم.

وأضافت رئيس قسم حقوق الإنسان وسيادة القانون والعدالة الانتقالية في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، أن البعثة أعربت مراراً عن قلقها إزاء تقلص الفضاء المدني، مسلطة الضوء على القيود المتزايدة على الحريات الأساسية وإسكات الفاعلين في المجتمع المدني. كما لفتت البعثة الانتباه إلى حالات قمع بارزة، فعلى سبيل المثال، في 10 يوليو 2024 أدانت البعثة اختطاف ناشط شاب في مصراتة، وطالبت بالإفراج الفوري عنه وعن جميع المحتجزين تعسفياً، محذّرة من أن هذه الممارسات غير القانونية “خلقت مناخاً من الخوف، وضيقت المساحة المدنية، وقوّضت سيادة القانون”.
وللتصدي لهذه الأنماط، انخرطت بعثة الأمم المتحدة – والحديث للسيدة ناغرا – في جهود مستمرة للدعوة وتقديم الدعم الفني بهدف حماية وتوسيع المساحة المدنية. وبالشراكة مع مشرّعين ليبيين ومنظمات مجتمع مدني وخبراء دوليين، يسرت البعثة سلسلة من الحوارات رفيعة المستوى ومبادرات بناء القدرات في عامي 2024 و2025، ركزت على استبدال القانون رقم (19) بتشريع شامل يتماشى مع التزامات ليبيا الدولية.
كما أكدت السيدة سوكي على دعوة جميع السلطات الليبية لاتخاذ خطوات فورية، حصرتها في النقاط الآتية:
- اعتماد تشريعات تُمكّن منظمات المجتمع المدني من العمل باستقلالية ودون خوف من الانتقام؛
- إنهاء الممارسات التي تُسكت أو تُرهب المجتمع المدني؛
- وضمان حماية وتوسيع المساحة المدنية باعتبارها أساساً ضرورياً لتعزيز حقوق الإنسان، وتعزيز التماسك الاجتماعي، وضمان إجراء انتخابات شفافة وموثوقة.”
غياب القانون أفضل من قانون معيب !!
من خلال الآراء التي استطلعناها، والوثائق التي حللناها، استنتجنا عدة مخاوف مشروعة على مستقل المجتمع المدني في ليبيا، وتتركز هذه المخاوف ليس في عدم إقرار قانون جديد لمنظمات المجتمع المدني، بل في إقرار قانون معيب، لا يقدم تعريفات واضحة ودقيقة للمصطلحات التي عادة ما يكررها بعض المسؤولون، مثل “القيم التي يقوم عليها المجتمع الليبي” و”السلم الاجتماعي” و”التمويل المشبوه” لتجنب أي تفسيرات تعسفية، ويجب أن تكون هذه التعريفات محدودة، ومبنية على مبدأ ضرورة وشرعية القيود التي تتماشى مع المعايير الدولية.
كما يجب أن يتم تحديد صلاحيات مفوضية المجتمع المدني بشكل أكثر دقة ووضوح، حيث يقتصر دورها على الجوانب الإدارية والإشهارية، دون أن يكون لها الحق في تقييم محتوى الأنشطة أو الأفكار.
كما يجب أن يمنع القانون صلاحيات المفوضية في تعليق الأنشطة بشكل تام، لضمان أن جميع الإجراءات التأديبية تتم فقط عبر القضاء، وهذا يضمن حماية المنظمات من أي تدخلات سياسية أو إدارية. وعلى القانون أن يحدد فترة زمنية معينة لرد المفوضية على طلب الإخطار، ويجب إضافة نص يحدد مدة قصوى للرد (على سبيل المثال، 15 يومًا)، وإذا لم يتم الرد، يعتبر الإخطار مقبولًا تلقائيًا، وهذا يمنع المماطلة الإدارية.
كما يجب أن يتضمن القانون نصًا صريحًا يمنح المنظمات الحق في الطعن القضائي على أي قرار صادر عن المفوضية، سواء كان تنبيهًا أو طلبًا لوثائق، وهذا يعزز مبدأ سيادة القانون.
تحقيق جلال عثمان
إعداد اللقاءات الصوتية
رضا فحيل البوم
ماهر الشاعري
لقاءات الفيديو
إيمان بن عامر
دعم تقني
حسن الصادق