
تحقيق: موسى ونتيتي
هذه إحدى أكثر القضايا حساسية في السياق الليبي، وهي علاقة الاعتراف القانوني بالحقوق السياسية للمكونات الثقافية، ومن خلال تجربة شخصية ومعطيات حقوقية وشهادات خبراء، يبرز هذا التحقيق إشكالية غياب الهوية القانونية وتأثيرها المباشر على المشاركة السياسية، وعلى استقرار المناطق التي تمثل عمق ليبيا الاجتماعي والجغرافي.
الإلغاء الوجودي وغياب الهوية
يمثل ميمون يوسف، وهو من فئة حملة الأرقام الإدارية، نموذجًا لمعاناة مستمرة عاشها آلاف الأشخاص في ليبيا. يصف ميمون حياته السابقة داخل البلاد قبل حصوله على وثائق رسمية في كندا بقوله: “أنت موجود جسديًا، لكنك غير معترف بك قانونيًا. أنا شيء في الوسط، شيء معلق”. يقول أيضًا أن رحلة البحث عن الهوية كانت أشبه بمعركة يومية.
يصف مأمون كيف أن فرص التعليم والسفر والتدريب كانت تتبخر عند حاجز القانون، بالقول: “جتني فرص تدريب، وإمكانيات نطلع ونتعلم ونرجع نفيد مجتمعي، لكن الرد كان واضح. أنت لا تستطيع مغادرة حدود بلد لا يعترف بك”.

ويضيف حادثة تلخص، من وجهة نظره، جوهر الأزمة: “مرة كنت في مستشفى حكومي. طلب مني الموظف الرقم الوطني، فلما قلت ما عنديش، نظر لي باستغراب وقال السيستم ما يفتحش إلا برقم وطني، حسّيت روحي عريان، المشكلة مش في الورقة، بل لأن السيستم نفسه مش مبرمج يعترف بوجودي”.
ولم يتوقف الأمر عند الخدمات العامة، بل امتد إلى الحق السياسي. “ما كانش عندي الحق نسجل في السجل الانتخابي ولا نشارك في التصويت. وهذا بالنسبة لي مش مجرد منع من التصويت، بل رسالة تقول لي إنك لست جزءا من القرار”.
تناقضات الجنوب والمسؤولية المزدوجة
تأخذ قضية الهوية بعدًا أكثر تعقيدًا حين ترتبط بالجنوب الليبي، حيث تلعب المكونات الثقافية دورًا محوريًا في حماية الحدود والتعاون الأمني. يقول ميمون إن التناقض كان واضحًا في حياته اليومية: “الدولة تريد منا أن نكون حاجز أمني للحدود، ونعاون في محاربة التهريب والهجرة، لكن في نفس الوقت ما تعترفش بهويتنا. كنا نُعامل كملف أمني، مش كمكون اجتماعي”.
هذا الشعور بالتهميش يتقاطع مع رأي ناشطين وقادة من المكونات، حيث يؤكد محمد موسى تكاكام، رئيس منظمة تجمع شباب ونشطاء إيموهاغ، أن غياب المعالجة الجدية للملف يؤثر على الاستقرار، ويقول: “غياب التمثيل السياسي يمكن أن يعيق جهود الحكومة المركزية. وهذا قد يؤدي إلى التقليل من تعاون المكونات مع الأجهزة الأمنية، ما يفتح المجال لزيادة نشاط المجموعات المسلحة العابرة للحدود”.

في الاتجاه ذاته، يرى السيد آدم، رئيس الكونغرس التباوي الليبي، أن المشكلة تتجاوز الإجراءات، مشيرًا أن الأقليات ستكون خارج لعبة صنع القرار، سواء تشريعيًا أو تنفيذيًا، لأن سياسات التهميش والإقصاء الممزوجة بالعنصرية ستستمر، وسيترسخ مبدأ المغالبة.
الناشطة زهرة موسى، الناشطة الحقوقية والصحفية من مكون التبو، تؤكد أن الإقصاء السياسي يولد الهشاشة، وتشير إلى الآثار الاجتماعية الخطيرة لغياب التمثيل، قائلةً: أعتقد أن غياب المكونات أو ضعف من يمثلها في مواقع التأثير جعل احتياجاتنا الخدمية والاجتماعية خارج أولويات الدولة، وهذا الأمر يمكن قياسه بالنظر إلى ضعف الخدمات واستمرار التعامل مع الجنوب كمنطقة هامشية”. وتضيف: “حين لا تُسمَع أصوات الناس ولا تُؤخذ مطالبهم بجدية تصبح المجتمعات أكثر هشاشة وأكثر عرضة للنزاعات وتدهور الأوضاع الإنسانية”.
كما تسلط زهرة موسى الضوء على البعد النسوي للإقصاء، وتؤكد أن وجود النساء من المكونات الثقافية في مواقع التأثير ضرورة حقيقية، وليس مطلبًا شكليًا ودون هذا الحضور ستبقى سياسات الدولة بعيدة عن واقع الجنوب وسيستمر التهميش بشكل أكبر و بطرق مختلفة”.
الكوتا: تمثيل سياسي فوق قاعدة “ملغاة” قانونياً
تنتقل الأزمة من الحرمان الشخصي متمثلاً في قصة ميمون إلى مأزق التمثيل الجماعي؛ حيث يرى خبراء أن الحديث عن “الكوتا” أو حصص التمثيل السياسي يظل هيكلاً بلا روح ما لم يُعالج “الإلغاء الوجودي” للقاعدة الشعبية التي يفترض أن تمثلها. فالمشكلة ليست في غياب النصوص القانونية فحسب، بل في انفصامها عن الواقع المرير لأشخاص مثل ميمون، الذين لا يعترف الـ “System” بوجودهم أصلاً.

يضع الناشط الحقوقي جعفر الأنصاري الإصبع على الجرح حين يقارن بين “الكوتا العددية” الممنوحة للمرأة وبين الاكتفاء بـ “ضمانات إجرائية” غامضة للمكونات الثقافية. هذا الفرق ليس مجرد تفصيل قانوني، بل هو “تمييز في الأثر” يجعل من صوت المكونات صوتاً خافتاً ومقيداً. فبينما تستند كوتا المرأة إلى قاعدة مواطنات معترف بهن، يُراد لكوتا المكونات أن تمثل “أشباحاً قانونية” لا يملكون حتى حق التسجيل في السجل الانتخابي، مما يحول هذه الكوتا إلى ما وصفه ميمون بـ “الديكور السياسي” الذي يزين المشهد بينما يبقى أصحابه “عراة” أمام أنظمة الدولة.
وجهة نظر أعضاء الهيئة التأسيسية:
من داخل هيئة صياغة الدستور، يوضح علي حمداني أغالي، عضو الهيئة التأسيسية ممثل الطوارق، أن التوافقات في مسودة الدستور 2017 لم تكن أقصى ما تفاوضوا عليه، بل هي حصيلة الممكن في ظل الرغبة المستمرة لاستبعاد حقوق المكونات. ويصر أغالي على أن الحقوق محمية دستورياً بنص الفقرة الثانية من المادة (195)، التي تنص على عدم جواز المساس بالمبدأ المتعلق بالهوية واللغة.
ويضيف أغالي أن إقرار الحد الأدنى لضمان التمثيل تطلب “وقتاً وجهداً كبيرين”، لأن الأغلبية في الهيئة كانت تتحجج بأن هذا النص ليس من الحقوق الخاصة بالمكونات، مؤكداً أن الضمانات الدستورية موجودة كـ “نصوص”، لكنها ستحتاج إلى “قوة واعية” من أصحاب الشأن للنضال من أجل إحقاقها عبر المحكمة الدستورية.
ويشاركه في الدفاع عن الضمانات إبراهيم علاق اللافي، ممثل الطوارق في الهيئة، الذي يرى أن التوافق لم يكن تنازلاً عن الحقوق، بل “ضماناً للمشاركة السياسية الفاعلة”. أما حقوق المكونات المكتسبة فلا يجوز المساس بها إلا لتعزيزها.
في المقابل، يرى السنوسي وهلي، ممثل التبو في الهيئة، أن المشكلة الأساسية تتعلق بغياب ضمانات التنفيذ وعدم وجود إطار واضح يربط الاعتراف القانوني بالتمثيل السياسي الفعلي.
ولفهم الأثر السياسي، يوضح عمرو سفيان، الخبير الأكاديمي في دراسات السلام والنزاعات، أن الاعتراف بالمكونات شرط أساسي لاستقرار المناطق الحدودية: “أي عملية سياسية تستثني مكونات رئيسة داخل جغرافيا حساسة مثل الجنوب، ستخلق فجوات أمنية واجتماعية يصعب احتواؤها مستقبلاً”.

أما الدكتور هشام زكاغ، الخبير القانوني الدولي، فيرى أن غياب الاعتراف القانوني يدخل ليبيا في إشكالية تتعارض مع معايير المواطنة الحديثة: “لا توجد مشاركة سياسية فعلية بدون هوية قانونية. أي نظام انتخابي يمنح كوتا لمكونات لا يتم الاعتراف بها قانونياً، سيكون نظاماً مختلاً وغير قابل للتطبيق الصحيح”.
من كندا إلى ليبيا .. رسالة مفتوحة
بعد حصوله على وضع قانوني مستقر في كندا، اكتشف ميمون ما يعتبره الفارق الجوهري بين التصحيح الإداري والاعتراف الوجودي: “هنا في كندا كان الموضوع إجراء قانوني، مش معركة وجودية”.
لكن رغم ذلك، لم يغلق ميمون الباب على وطنه: “لو استمرت الأزمة كما هي، سنعيش دائماً بين الخوف والحرمان. الهجرة كانت مخاطرة، لكنها كانت الطريق الوحيد لأصير رقماً حقيقياً في دولة حقيقية”.
ويختم رسالته للنخبة السياسية: “قضية Stateless في ليبيا ليست ملفًا إداريًا. التكلفة البشرية لإهمالنا كبيرة جداً. كيف تعطي مكون كوتا في مجلس النواب، وبعض أفراده غير معترف بجنسيتهم؟ من دون هوية قانونية، الكوتا تصبح مجرد ديكور سياسي”.
تم إنتاج هذه المادة الصحفية بدعم من منظمة صحفيين من أجل حقوق الإنسان JHR