عندما تدير القوانين ظهرها لأبناء المطلقين

حياة قاسية وحقوق ضائعة

تحقيق: عبد الله الوافي

الأطفال هم أول من يدفع الأثمان الباهظة عقب كل حالة طلاق من سبل حياتهم، ومن مشاعرهم وأحاسيسهم في ظل قوانين جامدة لا تتحرك مع عجلة الاقتصاد التي تتغير باضطراد، وغالبًا ما يتحولون إلى مجرد ساحة للحرب بين ذويهم، وتصفية الحساب بين الآباء والأمهات

عندما بعثت الحياة في أم خليل الميتة

خليل ولد قبل أن تلقى أمه حتفها مباشرة، أو هكذا قيل له، وظل يتيم أم على هذا الحال حتى دخل أحد المعاهد الدينية، واستقر في القسم الداخلي، حيث يبعد بيت والده عن المعهد بمسافة كبيرة مع قلة وسائل المواصلات حينها.

خليل لم يتمكن من جمع شيء من المعلومات عن أمه أكثر من أنها ماتت بعد وضعه، بل كان والده يمنعه حتى عن السؤال عنها، وفي القسم الداخلي زاره غريب وصدمه بخبر يتعلق بأن أمه على قيد الحياة، ووسط حالة الذهول والدهشة والمشاعر المضطربة، وعده الغريب بأنه سيحضر له في الأسبوع المقبل ويزوده بعنوان سكن أمه التي ما يزال خليل يشك في أنها قد تكون على قيد الحياة بعد ستة عشر عامًا من ولادته. ويصف خليل أسبوع انتظار عنوان سكن أمه بانه أصعب أسبوع مر عليه في حياته من التوق والخوف والغضب والحزن والشوق والحيرة، ويقول بأنه قد أصيب بشيء من الهزال بسبب عزوفه عن تناول الطعام وحتى الشرب إلا بالقدر القليل الذي يتطلبه البقاء على قيد الحياة. وفي الموعد المضروب جاء الغريب بالعنوان ليؤكد له مجددًا صدقه، وذهب خليل إلى العنوان كالمريض المخدر، وهو الذي لم يذق من مولده لحظة إحساس البنوة للأم .. وصل خليل إلى بيتها ونادى عليها وخرجت له في الرداء التقليدي، حاجبة وجهها عنه فسالها إن كان لها ابن اسمه خليل من زوجها الأول، فردت بالإيجاب، فأخبرها بأنه هو خليل ابنها فقفزت تحتضنه باكية، وتجمدت كل مشاعره بسبب الصدمة والفرح الغامر .. من يعوض خليل عن فقدانه لمشاعر الأم وعطفها واهتمامها وإشباعاتها التي حرم منها طيلة ستة عشر سنة، وهي الفترة التي يكون فيها الإنسان في أمس الحاجة إلى أمه ،خاصة وأنها على قيد الحياة، ومن يجرم فعل الحرمان وكتم المعلومات والتضليل العمدي الذي تعرض له من قبل أقرب الناس إليه.

القانون لا يتعاطى كثيرًا مع المشاعر وبعض المتضررين لا يستطيعون رفع بعض الدعاوى التي ينبغي أن تحرك

المحامية هبة علي قالت: بأن القانون لا يتعاطى مع المشاعر والأحاسيس، إلا في أضيق نطاق، وأن الكثير من القضايا لا تجد طريقها للقضاء بسبب الجانب الاجتماعي، فإذا كان القانون قد فرض على الطرف الحاضن للأولاد أن يسمح  للطرف الآخر برؤية الابن المحضون باعتبار أن الرؤية حق للطفل، وللأب، أو للأم، وأن الرؤية تتم بأمر ولائي مستعجل غالبًا، ويحدد القاضي مدتها ومكانها طالما اختلف المطلقان عن تنفيذها اجتماعيًا بمنأى عن القضاء، إلا أن حالات كتم المعلومات المتعلقة بحياة الأم كما حدث مع خليل، أو ربما كتم المعلومات عن حياة الأب، أو عنوان وجوده، كما يمكن أن يحدث في الكثير من الأحيان، لم يعالجها القانون، وليس هناك تراكمية قانونية لدي تتعلق بمعالجتها، باعتبار أن المتضرر يرفض إقامة مثل هذه الدعاوى القضائية ضد الأب، أو الأم بما يعنيه هذا من تصعيد للمشكلة الاجتماعية، وزيادة للشحناء بين الطرفين، وهكذا يمر فعل حرمان الطفل من رؤية والديه، أو تقديم معلومات مضللة من أحدهما ضد الآخر، أو تشويه سمعة طرف لطرف دون أدنى عقاب، وتضيع على الطفل الحياة السوية التي يمكن يتمتع بها في كنف والديه الأحياء، حتى في حالة انفصالهما.

حق الرؤية الذي يتم في أقسام الشرطة المدججة بالأسلحة

منصور محمد قال بأنه طلق زوجته بعد فشل كل محاولات الإبقاء على الزواج قيد الاستمرار بسبب بعض الاختلافات، وأضاف بأن الزواج القصير أثمر عن طفل، وأنه تحصل على حكم محكمة بزيارة طفله المحضون عند أمه مرة كل أسبوعين لمدة ساعتين، وللأسف يضيف بأن الزيارة تتم عبر تسليم الطفل إلى والده في قسم الشرطة، وأمام رجال الشرطة المدججين بالأسلحة في بلد يعتبر فيه الداخل إلى المركز من ذوي السمعة السيئة، أو من أصحاب السوابق والمشاكل.

وأضاف بأن مشاهدات الطفل في بداية تشكيل رؤيته المشهدية للحياة، مشاهدات سيئة قد ترسخ في ذهنه مدى الحياة، وتوثر على نفسيته، مؤكدًا بأن حالات كثيرة من الزيارة تتم على هذا النحو، وحالات كثيرة أخرى يضطر فيها الأب للتضحية بالرؤية حفاظًا على مشاعر ابنه أو ابنته بسبب مكان الرؤية، وتنفيذها على هذا النحو وبقوة القانون، مشيرًا إلى أن أطفال المطلقين يتحولون إلى ساحة لتصفية الحسابات بين والديهم، ما يؤثر في حياتهم وقد يحولهم إلى منحرفين ومجرمين في يوم من الأيام.

قيمة النفقة لا تسد الرمق وقيمة بدل السكن أمر مضحك ولا يكفي لتأجير زريبة

فتحية ر. أ مطلقة قالت بأن النفقة التي يفرضها القاضي على المطلق لا تسد الرمق في ظل تغول الأسعار وبشكل مضطرد، ولا يمكن ملاحقته إلا بالكثير من المرونة في القانون، وفي تعديلات القانون التي ينبغي أن تتابع الحالة الاقتصادية للبلد، وأضافت بأن النفقة – وعلى ضآلة قيمتها – تحتاج إلى الطواف بين المحكمة ومراكز الشرطة والمحضرين والخزينة أيامًا للحصول عليها، وهي مكابدة بالنسبة للمطلقة، والتي تعاني من مشاكل اجتماعية مختلفة من بينها نظرة المجتمع لها، ومن بينها أيضًا نظرة أهلها لها، ومنعها في الكثير من الأحيان حتى من ملاحقة النفقة ومتابعة تنفيذ الأحكام، وأضافت ربيعة بأن ما يحكم به غالبًا بدلًا للسكن هو مبلغ قليل للغاية ولا يكفي حتى لتأجير زريبة، وأشارت أن القانون يقول بأن السكن حق للحاضنة في حالة الطلاق إذا لم تقم بها أسباب تمنعها من هذا الحق، والقانون يميل إلى أن تحتفظ الحاضنة بالبيت الذي ولد فيه الأطفال وعاشوا فيه وكبرت أحلامهم بداخله، إلا أن الأب غالبًا يتحايل لحرمانهم منه، إما بالزواج بأخرى في الحال، أو ببيعه، أو تأجيره، أو بطرق أخرى، وهذا أمر مدمر للحاضنة والأطفال الذين يحرمون من الأب، ويحرمون من البيت الذي ولدوا فيه.

وتضيف ربيعة بأن قيمة بدل السكن غير مجزية، ولا النفقة مجزية خاصة مع الغلاء وتنامي الاحتياجات المتمثلة في الدراسة والملابس والدورات والعلاج وغيرها، وتختم كلامها بأنها معاناة لا حصر لها.

التعديلات القانونية التي يحتاجها الطفل من أبوين مطلقين تتعلق بضبط تنفيذ الأحكام وجدية مواجهة التهاون

المحامي بشير السيفاو

الأستاذ البشير سيفاو المحامي والمختص بالأحوال الشخصية والخبير فيها قال: بأن القوانين في الأحوال الشخصية سديدة حسب وجهة نظره، وأن احتاجت إلى تعديلات فأنها تحتاج إلى تعديلات من حيث ضبط التنفيذ، وأن يكون أكثر جدية في حالة التهاون في الالتزام بالأحكام والأوامر القضائية والولائية، وإعطاء ضمانات أكثر للحيلولة دون تهميش الأحكام، وعدم العمل بها، وأضاف بأن قانون الأحوال الشخصية كفل للمحضون النفقة التي تكفل له الحياة الكريمة، وتتوافق مع حالة المنفق عسرًا ويسرًا، أما السكن فيضيف سيفاو: أنه مكفول كذلك، فللحاضنة الحق في بيت الزوجية من حيث الأصل والاستثناء هو بدل السكن، كما وأن لوالد المحضون ولوالدته حق الزيارة والاشراف والرقابة على تربيته وتعليمه.

المشرع في ليبيا اعطى القاضي السلطة التقديرية فيما يتعلق بتحديد قيم النفقة وبدل السكن حال وقوع الطلاق

وأضاف الأستاذ البشير سيفاو المحامي ردًا على شكوى بعض الأمهات الحاضنات من عدم كفاية النفقة التي يقررها القاضي وقيمة بدل السكن قائلاً: بأن هذه مسالة فيها تعارض بين قيمة النفقة وبدل السكن، وهل الأب قادر على تغطيتها، وبين ارتفاع الأسعار في كل مناحي الحياة، مؤكدًا بأن قانون الأحوال الشخصية خلى من تحديد قيمة النفقة وقيمة بدل السكن، وترك الأمر للسلطة التقديرية للقاضي حسب المعطيات التي أمامه.

الطفلة الشيطانة

وحيدة م ع تصلح قصتها أن تكون فيلمًا هنديًا تراجيديًا من تلك الأفلام الضخمة، وقد أدى ضعف الإعلام المحلي إلى عدم الانتباه إلى مثل هذه الحالات رغم انتشارها، كما عمل أحكام العامل الاجتماعي على كتم السير الخاصة بأفراد العائلة المنتمية إلى قبيلة، ما على طمس عشرات القصص المشابهة دون أن تصل إلى المؤسسات الإعلامية، أو حتى المؤسسات الاجتماعية التي كان ينبغي أن تحتضن مثل هذه الحالات، فالطفلة وحيدة دخلت اليوم سن الكهولة دون أن تجد حلاً لمشكلتها الكبيرة.

ولدت وحيدة في أجواء المشاحنات بين الأبوين وعقب ميلادها مباشرة طلق والدها أمها وتزوج في الحال، ورماها إلى أمها وتزوجت الأم برجل آخر ورمتها إلى والدها، والذي رماها بدوره من جديد إلى أمه، وهكذا صارت كل حياتها يحتضنها محرم أو قريب، ويرميها إلى آخر بعد فترة وجيزة .. فتركت وحيدة الدراسة وأصيبت بالكثير من الأمراض، ووصفت من أقرب أقاربها بأنها شيطانة العائلة، وأنها وجه نحس على أمها وعلى أبيها، وعلى أقاربها، وقضت عمرها على هذا النحو المزري، ورفضت البيوت الخاصة بحماية الأطفال، ثم حماية البنات والنساء قبولها بسبب وجود أم لها، وأب على قيد الحياة، ووجود أقارب لها من كل الدرجات .. بعد سنين طويلة اضطرت لتأجير سكن خاص بها بعيدًا عن الأعين لتعيش في حالة عزلة تامة عن العالم الخارجي، إلا من جارة ثقة تمر من أمام بيتها بين الفينة والفينة مخافة أن تموت فجأة دون أن يفطن لها أحد بسبب إصابتها بالسكري والضغط وأمراض قلبية أخرى.

قالت جارتها بأن وضعها صار مزريًا، وأن السبب يعود إلى عدم وجود مؤسسات تكفل إيواء مثل هذه الحالة دون فرض شروط تعجيزية في ظل قوانين تحتاج إلى البعثرة والتطوير والتنقيح، وبعرض القصة على أحد أساتذة الاجتماع “محمد نابي” قال: بأن الغرب سن قوانينًا صارمة تتعلق بالطفل الذي يستطيع أن يتصل ببعض الأرقام الهاتفية المجانية على ذمة الدولة للتبليغ عن تعرضه للإهانة، أو الاعتداء اللفظي، أو الاعتداء البدني من قبل والديه، حيث يسمح القانون في هذه الحالة بإسقاط حق الوالدين في الحضانة، وتسليم الطفل إلى عائلات أخرى تحتاج إلى حضانة أطفال وفق معايير مضمونة، أو نقل الطفل إلى مؤسسات عامة، بينما يعيش عندنا بعض الأطفال حياة سيئة بكل المعايير في ظل الوالدين، أو بسبب الطلاق بينهما دون أن يجد له حاضنًا من الخواص، أو من مؤسسات الدولة العامة.

قصور التوعية بالحياة الاجتماعية في الإسلام أدت نشر ثقافة كراهية المطلق والعنف ضده من قبل الأبناء

قال ع س  أستاذ الإعلام في إحدى الجامعات بأنه طلب من طلابه كتابة قصص في مادة علمية تتعلق بالسيناريو ليتم وضع سيناريوهات لها، فكتبت إحدى الطالبة قصة أثارت الأستاذ، ولما قراها أعجب بها، ووصف الطالبة بأنها تمتلك خيالًا خصبًا، فابتسمت وقالت بأن القصة ليست من نسج الخيال، وأنها حقيقة، ووقعت لعائلة جارة لهم، وتقول الواقعة بأن شابًا عاد إلى بيته حيث أنه يقيم مع أمه المطلقة فوجدها باكية، وحين سأل عن سبب البكاء أجابته أمه بأن والده جاء البيت، وقام بتعنيفها فعزم على الانتقام منه، وحمل سلاحًا وحاول مغادرة البيت، إلا أن أمه حاولت منعه من الخروج، وحاولت أن تفتك البندقية من بين يديه بالقوة ما أدى إلى خروج رصاصة بالخطأ أنهت حياة الأم المسكينة .. والقصة فاجعة وهي تعكس من ناحية عدم تقبل الأطفال وحتى الشباب في المجتمع المسلم لفكرة الزواج على أمهاتهم رغم الإباحة الواردة في الدين الإسلامي .. والطلاق كما يقول ع س مرفوض تمامًا من قبل الأولاد من سن الطفولة إلى سن الشباب، ولا يسمحون به ولا يتقبلونه وهم هنا يحتاجون إلى توعية وتثقيف من مختلف المؤسسات التربوية في المجتمع المسلم، للتوعية بشرعية هذا النوع من الزواج وتقبله خاصة إزاء تسببه في الكراهية التي بلغت حجم قتل الوالد، أو التفكير في قتله، أو الضغط عليه للعدول عن فكرة الزواج الثاني، وقد أدت حالة عدم التوعية بهذا الأمر إلى الانكسار والانحراف والجريمة، وهي أمور تحتاج إلى معالجة على مختلف الصعد.

القوانين لدينا تدير ظهرها لأطفال المطلقين في الحقوق وفي أساليب تنفيذ الأحكام والأوامر الولائية

م.أ  برلماني سابق تحدث باستفاضة عن القوانين التي ينبغي أن تنقح، وأن تسن من جديد، وأن تخضع للكثير من الإضافات والتعديلات من أجل الاهتمام بحقوق أطفال المطلقين الأساسية والتي من بينها الحياة الكريمة عبر النفقة المناسبة في ظل الغلاء الفاحش، وحق رؤية الطفل لأبويه المطلقين بعيدًا عن التنفيذ الجبري، وبعيدًا عن أقسام الشرطة التي لا تصلح مكانًا لتبادل العواطف والحق في الايواء العام، إذا تعرض الطفل إلى التعنيف عند من يحضنه ولو كان أمًا أو أبًا أو جدة سيان، والحق في أن يعيش المحضون في البيت الذي ولد فيه وعاش فيه ردحًا من الزمن مع الحاضنة، وعدم طرده منه باستخدام الكثير من الحيل التي يلجأ لها المطلق غالبًا للاستحواذ على بيت الزوجية لنفسه دون الحاضنة، ودون أطفاله منها.

م.أ يضيف بأن المشرع في ليبيا غفل عن الكثير من المذكرات التي كانت بصدد الدراسة والمتعلقة ببعض التعديلات والإضافات الضرورية في قانون الأحوال الشخصية على ما يبدو بسبب الفوضى التي تعانيها البلاد بعد أحداث فبراير 2011، ما أدى إلى تجميد محاولات تحسين تلك القوانين التي لا ينبغي أن تظل كثيرًا تدير ظهرها إلى بعض شرائح المجتمع، ومن بينهم أطفال المطلقين خاصة فيما يتعلق بأساليب تنفيذ الأحكام القضائية والأوامر الولائية غير الحازمة، والتي تتسبب في إضاعة حقوق كثيرة للأطفال.

 

تم إنجاز هذه المادة الصحفية بالتعاون مع صحفيون من أجل حقوق الإنسان JHR والصندوق الكندي للمبادرات المحلية، والمؤسسة الليبية للصحافة الاستقصائية  LIFIJ

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى